يوم في البَرِّيّة (رحلة)
محمد الصادق الخازمي
تشعُرُ في بعضِ الأحايينِ بالضيقِ والسَّأَمِ مِن رتابةِ الحياةِ اليوميةِ التي تعيشُها ، وتَتَمنَّى أنْ تَكْسِرَ هذه الرَّتابةَ بشيءٍ ما ، يُخْرِجُكَ من النظامِ الصارِمِ الذي تسيرُ عليه في كلِّ يوم ، وتُجَدِّدُ نشاطَكَ في شيءٍ مختلفٍ .
قال لي ذلك الصديقُ : إنْ شئتَ الخروجَ معي إلى البَرِّ فإنَّ عندي شرطاً لا بُدَّ منه ، قلت : هاتِ ، قال : شرطي المبيتُ ، فإِنَّ الخروجَ إلى البَرِّ ثمَّ العودةُ منه سريعاً لا تُرْضي مزاجي ، ولا تَقُومُ بتعبِ الرِّحلةِ ، ولا تَسُدُّ خلّةَ الاستراحةِ فيه ، والاستمتاع بحياةٍ محتلفةٍ هناك ، قلت : وما ضرورةُ المبيتِ ؟ أَلا يكفينا النهارُ بكاملِهِ ، وإنْ شِئْتَ صدراً من الليل ؟ قال : أعرفُ أنَّك حَضَرِيٌّ ، لم تُعَوَّدْ لذَّة الباديةِ ، وليس لي عن شرطي مَزْحَلٌ ، فإن شئتَ به ، فنعم أصحبُكَ معي ، وإِلاَّ فلا تُفْسِدَنَّ عليَّ خروجي . فكَّرْتُ قليلاً ، كيف أقضي ليلةً بدون انترنت ، ومن غير قناةِ الجزيرةِ ، ومن غير رسائلِ المحمولِ ، واتصالاتِ الأصدقاءِ ؟
ثُمَّ قلت : لا بأس ، فَلأُرِحْ نفسي وذِهني من فوضَى الستالايت ، ورنّات المحمول ، وضجيج السياراتِ ، وصخبِ الناسِ في المدينة ، ولعلَّ في شرطِ الرجلِ خيراً كثيراً ،
- إنَّ عندي شرطاً .
- : وما ذاك ؟
- أنْ تبحثَ لنا عن شيئيْنِ : رفيقٍ ثالث ، وحليب إبلٍ في البادية ، في مدينتي تجدُ بعض َ المحلاتِ التي تبيعُ حليبَ الإبل ، لكنَّ العارفين من أهل الطب ينصحون بحليب الإبل التي تأكلُ من نباتِ الصحراءِ ويرون فيه منفعةً وطباً ، وكنت أُعاني شيئاً من ( الحموضة ) ، فنصحوني بهذا الحليب .
- أما الصاحبُ فأنت أدرى بمن يوافقُك ، وأمَّا حليبُ الإبل ، فعليَّ إن شاء الله.
لم نُوَفَّقْ لاصطحابِ أحدٍ معنا ، فسِرْنا صباحاً ، لم يَكُنْ مطلوباً منِّي سوى فراشٍ وغطاءٍ لنفسي ، أمَّا بقيَّةُ العدة فقد تَكَفَلَ بها عبدُ السلامِ : برميلانِ من الماءِ أحدُهما عذبٌ مُصَفَّى لشرابِنا وأكلنا وشاهينا ، والثاني من ماء الحنفيات العادي للوضوء وغسلِ الأواني ، و لوازِمُ أُخْرَى كثيرةً ، أَعَدَّ لها الرفيقُ صندوقاً خاصّاً يحويها ويجمعُها .
المسير :
سيارتُه الداتسون القديمة بها أيضاً كلّ لوازمِ السفرِ ، وبها عجلتان احتياطيتان ، وعِدّةُ مفاتيحَ وأشياء معها لمواجهةِ أيِّ عطلٍ طارئٍ .
اتَّجَهَتْ بنا السيارةُ نحو وادي سوف الجين ، أكبرِ وديان ليبيا تقريبا ، يمتدُّ أعلاه - وكل الوديان في غرب ليبيا إن قلت : أعلَى : فإنهم بقصدون به ناحية الغرب ، والأسفل : في اتجاه الشرق - بمحاذاة نسمة ومزدة وغريان ويسير جنوب بني وليد ثمَّ يخترقُ السدادة ، وينتهي به مطافُه في البحر الأبيض المتوسط بالقربِ من تاورغاء ، طوله يبلغُ مئات الكيلومترات ، وجمع مع الطولِ العظيمِ ، اتِّساعَ عَرْضِهِ ، وقد يبلُغُ في بعض الأماكن عشراتِ الكيومترات ، وهو لشدة عرضه ، يصعبُ أن تَجْري فيه السيولُ ، لكنَّه إِنْ سالَ ، استبشرَ بسيلِه الناسُ في كلِّ الأماكنِ القريبةِ ، والصّابةُ فيه ( الصّابةُ : خصبُ الزرع ، وشدةُ نمائه ) غريبةٌ عجيبةٌ ، تُرْوَى عنها حكاياتٌ يصعبُ تصديقُها .
اقتربتْ بنا السيّارةُ من ( القلعة )[ ينطقها العوام بضم القاف ، وتسكين اللام ] ، وهي جبلٌ عظيمٌ شديدُ الارتفاع ، في أعلاه مقام الوليّ الصالح سيدي امبارك ، يتّخِذهُ الناسُ مزاراً ، وفي القلعةِ أخاديدُ عظيمةُ يعيشُ فيها الودَّان ( الوعلُ البرِّيُّ ) ، وحول جبل القلعة تُوجَدُ بعضُ القُورِ الصغيرةِ المحيطة به ، والقورُ : جبالٌ صخريّةٌ صغيرةٌ ، وهنا ذكرت قول كعب بن زهير :
كأَنَّ أوْبَ ذِراعيْها وقد عرِقَتْ * وقد تَلَفَّعَ بِالقُـورِ العسـاقيلُ
شَدَّ النّهارِ ، ذراعا عَيْطَلٍ نَصِفٍ * قامَتْ ، فجاوبَها نُكْدٌ مثاكِيلُ
وهذا من التشبيه المقلوب ، لأَنَّ القُور هي التي تَلَفَّعَتْ بالعساقيل ، والعساقيلُ : السراب.
يُقابِلُ جبل القلعة ِ سلسلةُ جبالٍ مُتّصِلَةٍ عظيمةٍ ، يُسَمِّيها الناسُ : دور سوف الجين ، وأظُنُّ أَنَّ سبب تسميتِها دوراً أنها دائِرةٌ بوادي سوف الجين ، مُحيطةٌ به .
حسِبْتُ أَنَّ عبدَ السلام سيسيرُ نحوَ القلعة لكنّه سارَ بِاتِّجاهِ جنوبِها إلى الدور ، ثم ظهر لنا بين القلعةِ والدور اتساعٌ وانفراجٌ وكنتُ أَراهما من بعيدٍ كالمُتَّصِلَيْنِ ،
- هذا وادي الْمَخْرَم ، بين الجبلين العظيميْن ، بين الدور ، وسوف الجين .
- إنَّها تسميةٌ عربيّةٌ فصيحة ، فهذا الوادي يبدو كالخُرْمِ في وسطِ هذه الجبال ، والاشتقاقُ سليمٌ بالنسبة للعربية .
- هل تَشُكُّ في عربيَّتِنا ؟
- ليس لذلك ، ولكنّي أرتاب في مُسَمَّى سوف الجين ، سمعتُ أنَّها تسميةٌ بربرية ، وأنَّها تعني في لغة البربر : وادي البطُّوم ( البطوم : شجرٌ صحراوي ، يُشبِه الزيتون ، وله حَبٌّ صغيرٌ جدا فيه زيتٌ ، يقضمه الناسُ ويتَّخِذونه تسليةً ، كما يفعلون اليوم بالبندق والفستق والسامينسا ) ، ولعلَّ تسميةَ سوف الجين جاءت من أجزائه العليا حيثُ يقتربُ من جبل نفوسه ، وأماكن تواجد البربر .
- في العامية يَدَّعون أن تسمية سوف الجين مُحَرَّفةٌ عن كلمتي : شوف ( انظر ) الزَّيْن .
- ربَّما ، أو لستُ مقتنعاً بهذا السببِ الأخير.
وادي المخرم وادٍ عريضٌ أيضاً ، صحيحٌ أَنَّهُ يبدو في مدخلِهِ ، كخُرْمِ إبرةٍ بين الجبال ، لكن ما إنْ تَتَجاوزْ مدخلَه حتَّى يبدو لك اتساعُه ، وخِصْبُه ، الطريقُ ليستْ سيئةً هنا ، فالأرضُ ليستْ صخريّة ، بل هي أقربُ للطينية .
- انظُرْ هل تَرَى إِبِلاً ؟ فإنَّ نظري كليلٌ !
- لا أَرى إِبِلاً في مَدَى بصري .
- أَظُنُّك لا تعرِفُ كيف تَرَى ، إِنَّك ستراها من بعيدٍ كأَنَّها نُقَطٌ سوداءُ تنتشِرُ في الوادي ، فَأَعِدْ نظراً .
أعدتُ النظرَ .
- نعم ، أَرَى مِنْ بعيدٍ نُقَطاً سوداء .
- لعلَّ ما رأيته شجر سِدرٍ !
- وما يُدريني !
- انظُر ، وثَبِّتْ نَظَرَك ، فإِنْ تَحَرَّكَت النُّقَطُ السوداءُ فهي إِبِلٌ ، وإِلاَّ فهي شجر .
مَنْ لم يَعْتَدِ الصحراءَ والباديةَ ، قد يُسْرِعُ إليه الخيالُ ، ويُغْويه السرابُ ، ويختلِطُ عليه الأمرُ ، وبعدَ نظرٍ وتَثَبُّتٍ قلت له : نعم إنها نُقَطٌ تتحَرَّك .
- أَتُرانا نَجِدُ عند راعيها حليباً .
- خُذْ مِنِّي هذه ، إِنْ وَجَدْتَ الإبِلَ مُشَمَّلةً ففيها حليبٌ ، وإلاَّ فلا ، ( الشمال : كالخُرْج الصغير يُوضعُ حول ضرعِ الناقةِ ، ويُشَدُّ بِخُيُوطٍ على سنامِها ، ورُبَّما جعلوا حولَ السَّنامِ قِطعةً من كيسِ العلفِ تُنْقَبُ مِنْ أعلاها ، فتخرجُ من الكيس ذروةُ السنام ، ويُشَدُّ الخرج الذي على الضرع بخيوطٍ تُثَبَّتُ على الكيس حولَ السنامِ ) ، ووجودُ كيس العلفِ مشدوداً على السنامِ دليلٌ على أنَّ الناقةَ مُعَدَّةٌ للحلب ، وهم يجعلون لها الشمال ، لئلاَّ يرضعها الحوارُ فلا يُبْقي لهم شيئاً مِن لبنها ، فهم يَحْبِسون عليها حليبَها لينالوا منه مع الحوار .
التقينا الإبِلَ وراعيَها ، أَنَاخَ علينا زُومالَهُ ( والزومالة : لفظةٌ عربيَّةُ فصيحةٌ ، وتعني الجمل القويَّ ، الذي يَشُدُّ عليه الراعي متاعَهُ وأغراضَه ، ويركبُهُ للحاقِ بالإبِلِ ورعيِها ، وربَّما كانت الزومالةُ ناقةً بمواصفات الجمل السابقة ) ، تَسَرَّعتُ فَسَأَلْتُ الراعي : هل عندك من لبن ؟
- لا ، إني مؤتمنٌ ولستُ بساقيكم ، وقد أَمَرني صاحبي أنْ لا أسقيَ أحداً إلا بإذنه.
- هل رأيتَ راعيَ إبلٍ هنا ، اسمُه : لزم ؟
- نعم هو في تلك الناحية .
- تصحبك السلامةَ ، قل لي لِمَن إبلُك ؟
- هي لفلان .
- ما رأيتُ أشدُّ بُخلاً من رجلٍ يمنعُ حليب إِبِلِه في الصحراء ، والناسُ هنا نادِرُو الوجودِ ، فكيفَ لو كان البشرُ كثيرين في البادية ؟! ، أَرى أنَّ هذا الرجلَ لو استطاع أن يمنع عن الناسِ الهواءَ لفعل ، أتعرفُ صاحبَها ؟
- أليس ذلك الرجلُ المسؤولُ في بلدِنا ؟
- نعم هو كذلك ، وهو دعِيٌّ على الباديةِ وأخلاقِِها اتَّخذَ له إبلاً للتباهي والتفاخر ، وهو سرق الأموالَ من الناس ، قاتله اللهُ !
- تبييضُ أموال .
- ماذا تعني هذه الكلمةُ ؟
- ما عليك منها ، كلمةٌ مُهَذَّبةٌ يُطْلِقُونها على السُّراق . نستغفرُ اللهَ في حقِّه .
- هذه لا تستغفِرْ منها.
- إِنْ كانَ فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَه ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ فيه ما تقولُ فقد بَهَّتَّه .
- لا غيبةَ في فاسق .
- دعنا منه .
لقاء الإبل :
ومضَيْنا نَطْلُبُ لَزْماً ، قال لنا الراعي إنّه في اتجاه الشمال ، فأخذنا ناحيتَه ، وما زالتِ السيارةُ تمضي بنا حتى وجدناه ، فأتانا :
- مرحبا بكما .
- وبك .
- أين إبلُكَ ؟
- هي ههنا ، غير بعيد .
- اذهبْ فأتِ بها ، فإنا مشتاقون لرؤيتِها .
ذهبَ الراعي يجمعُ إِبِلَهُ ، ويسوقُها نحوَنا .
- يا عبدَ السلامِ ، لعلَّكَ كلَّفْتَ الرجُلَ شططاً ، دعِ الرجلَ وإبِلَه ، ما حاجتُنا بها الساعةَ ؟
لم يكن عبدُ السلامِ قد أخبرني وقتَها أنَّهُ مالكُ الإبلِ ، وكنت أظنُّها لبعضِ أصحابِه ، وما أعْلمني بذلك إلاَّ عندَ أوبتِنا ، والغريبُ أنَّ راعيَه لزماً تعاطَى معه التعميةَ عليَّ طيلةَ مُقامِنا عنده ، فقد أخبرتُ لزماً بالراعي الذي منعهُ صاحبُهُ من بَذْلِ اللبن ، قال لزم : أمَّا أنا فواللهِ لا أَرْعَى على أحدٍ يمنعُ طارقاً أو ضيفاً اللبنَ أبداً ، ولو طلبَ مني صاحبي مثلَ ما كُلِفَ ذلك الراعي ما أطعتُه ، وما رعيتُ له قطُّ .
- أَتُراهما اجتمعا في اللؤم ؟
- لا لومَ إلا على صاحبِ الإبل .
قال لي عبدُ السلام : إِنَّ بي شوقاً عظيماً لرؤية الإبل من قريبٍ ، إنَّها مخلوقٌ عجيبٌ محبوبٌ ، أَلاَ تَرَى أنَّكَ إذا مرَّتْ بك ، أو رأَيْتَها محمولةً في سيارةٍ ، فلا بُدَّ أن تنظُرَ إليها ، حتى تغيب .
- ليس ذلك بالضرورة . رُبَّما مرَّتْ فلا ألتَفِتُ إليها ، وأنا رجلٌ كثيرُ الشغلِ في ذهني ، فربَّما انشغلتُ حتَّى عمَّا هو أغربُ منها .
- ذلك غريبٌ من طبعِك . ما كنتُ أحسِبُ أنَّ على الأرضِ إنساناً ، تَمُرُّ بِه الإبلُ فلا يَلْتَفِتُ إليها !
يستحسنُ بنا أن نضع أمتعتنا عند هذه الشجرةَ .
ولَمَّا وضعتُ المتاعَ ، وأنزَلْتُ لوازمَنا ، قال لي :
- إنَّ الظِِّلَّ سينقلبُ بعدَ قليلٍ إلى الناحيةِ الأُخرى فضع الأشياء هناك .
وأراحَ علينا الراعي الإبلَ ، فقام صاحبُنا يتفقّدُها ، ويسيرُ بينها ، ثمّ قال لراعيه ، ما تأكلُ الإبلُ هنا ؟
- الضمران .
أشار إليَّ بشجر الضمران ، الذي يتنشرُ في هذا الوادي كثيرٌ ، لكنْ ذهبتْ خضرتُه ، وبدا يَبِساً .
- نسألُ اللهَ الغيثَ النافعَ فهذا الضمرانُ لن يُشْبِعَها إلا قليلاً .
- آمين يا لزم.
- والآنَ هل سننالُ من الحليبِ يا لزم ؟
- ليسَ الآنَ ، يا أخاهُ ، إِنَّ الإبلَ لا تُحْلبُ إلا في الصباحِ الباكرِ ، أو في آخر العشيِّ ، ثُمَّ إِنَّ الإبلَ لا تَدُرُّ لبنَها حتَّى يأتيَها حوارُها ، وعند ذاك ننتهزُ الفرصةَ فنأخُذُ منها ، والحقَّ أقولُ لكم ، إنَّ الضمرانَ هنا لا يُشْبِعُ الإبلَ كثيراً ، وأخافُ إنْ أكثرتُ لكما الحلبَ أنْ تَهْْزُلَ فِصالُها.
- حاجتُنا يسيرةٌ ، هي بقدرِ شرابِنا فقط .
- أبشِرا ، عندَ الغروب .
انشغلْنا بإعداد إفطارِنا ، ثمَّ أخذنا جولةً في الوادي ، خضنا فيها رمالَه ، وحاذَيْنا دور سوف الجين ، ووصَلنا إلى قريبٍ من القلعة، وعند الغروب أراح علينا الراعي إبلَهُ مرَّةً أُخرَى ، وحلبَ لنا وسقانا حتى ارتويْنا ، أخذنا مكانَنا بجانبِ سِدرةٍ عظيمةٍ ، وأرخَى الليلُ سدولَه ، و برَّكَ الراعي الإبلَ مِنْ حولِنا ، ثم استأذنَ فقال : إنه ذاهبٌ لمسامرةِ بعضِ إخوانِه ، قال له عبدُ السلام :
- لعلَّكَ تُسامرُ راعي فلانٍ ( صاحبِنا آنفاً ) ؟
- نعم.
- إنَّ القرينَ بالمُقارِنِ يقتدي .
- لا تُسْرِفوا في اللومِ على الرجلِ .
- نعم ، صدقتَ .
- هل نتركُ لك من العشاءِ ؟
- إِنْ شئتُما.
أَخرجَ عبدُ السلامِ كشّافاً صغيراً من سيارته ، ووصلهُ بسلكٍ إلى بطارية السيارة ، وطفِقْنا نُعِدُّ المكرونة ، أصبحنا النقطةَ الوحيدةَ المُضيئةَ في الوادي كُلِّه ، قال عبد السلام : لا أُحِبُّ هذا الضوءَ ، ولولا حاجتُنا لمعرفةِ مقاديرِ الطعامِ ما شغَّلْتُه ، وبعدَ صلاةِ العشاءِ ، قامَ عبدُ السلامِ بإطفاءِ الكشَّافِ ، ومضَى يُعِدُّ الشاي .
- ليس في الدنيا شيءٌ ألذُّ من شايٍ يُصْنعُ على الحطبِ .
- ومكرونةٍ على الحطبِ أيضاً .
- أتعرفُ السببَ ؟ ، إنَّ السببَ يكمُنُ في دُخَانِ الحطبِ نفسِه ، فهو يُعطي نكهةً زائدةً.
قلت رحِم اللهُ أبا تمّام حيثُ يقول :
لولا اشتِعالُ النارِ فيما جاوَرَتْ * ما كانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْفِ العُودِ
السكونُ هنا شديدٌ ، لا تكادُ تسمعُ إلا أصواتاً مُتَقَطِّعةً لكلابٍ بعيدةٍ ، يبدو أنّها تصحبُ راعي غنمٍ في الوادي ، وعند مُضيِّ ساعاتٍ من الليل ، سمعنا أصواتِ عواء الذئابِ ، وبد الصوتُ قريباً جداً ، سألتُ لزماً بعدَ أنْ جاءَ :
- ألاَ تخشَى الذِّئابَ على إبِلٍِكَ ؟
- أنتَ لا تعرفُ شيئاً عن البَرِّ ، إِنَّ الناقةَ أقوَى من الذئابِ ، وهي لا تستطيعُ أن تؤذيَها إلا في حالةٍ واحدةٍ ، وهي أن تكونَ الناقةُ في حالة مخاضٍ ، عندها يأتي الذئبُ فيفترسُ حوارَها ، وهو يخرجُ من بطنِها ، فلا تستطيعُ الناقةُ له دفْعاً .
- وأين بقيّةُ النوقِ ألاَ تدفعُ عنها ؟
- إنَّك لا تعرفُ ، الناقةُ عندما يأتيها المخاضُ تنفردُ بنفسِها بعيداً عن بقيةِ الإبلِ وعن الناسِ أيضاً ، إنَّ بالنوقِ حياءً عظيماً .
- سبحان الله !
بدتْ أصواتُ الذئابِ قريبةً جداً ،سألتُ الراعي :
- هل الذئابُ قريبةٌ ؟
- نعم هي حولنا اشتمّتْ رائحةَ الشواءِ واللحم ، فهي قريبةٌ جدا ، ولكن لا تخْشَ هجومَها ، فهي تخافُ الإنسانَ ، إنَّ الإنسانَ هو أشرسُ شيءٍ في هذه الحياةِ ، يهابُهُ كلُّ مَن فيها .
- سبحان الله ( إنه كان ظلوماً جهولاً ) .
قلتُ للرجليْن : هل تضمنانِ أنَّ الذئابَ لن تُهاجمَنا ونحن نائمون ؟
- أمرٌ مستَبْعَدٌ ، وكِّلِ اللهَ.
- نعم ، ولكنِّي سمعتُ عن غدرِ الذئبِ الشيءَ الكثيرَ ، وماذا عن الحيَّاتِ ؟
- قال لزم : وجدتُ أثرَها قريباً في هذه المنطقةِ .
- دعِ الرجلَ ينامُ بسلامٍ يا لزم ، قال عبدُ السلامِ .
- سأقرأُ كلَّ ما أعرفُ من تعاويذَ وأذكارٍ ، والحافظُ اللهُ .
- نعم ، الحافظُ اللهُ .
كان مجلِسُنا في جلْهةِ الوادي حيثُ نبتعدُ عن بطنِهِ ، ونقتربُ من أعاليه ، البدو لا ينامون ، ولا يجلسون في بطنِ الوادي أبداً ، ذلك أنَّ السيلَ قد يفجؤهم في أيِّ وقتٍ ، قال لي عبدُ السلام :
- كان لي صديقٌ ابتاع غنماً كثيرةً ، وأتَى بها إلى هذا الوادي قبل سنتيْنِ ربَّما ، زرتُهُ ، فوجدتُه قد عمِلَ زريبتَه ( حظيرةُ الغنم ) في بطن الوادي ، نصحتُه أن يجعلَها في اللَّبَطِ ( طرف الوادي ممَّا يلي الجبل ) ، وقلتُ له : اجعلْها هناك ، حيثُ كان شيوخُنا يفعلون ، فقد كانوا يخشَوْنَ السيل ، فردَّ عليَّ صديقي مُسْتَهْزئاً : السيلُ ! ، وأينَ السيلُ ؟ فلْيأتِ السيلُ ، ولْيَسُقِ الغنمَ ، قال له عبدُ السلامِ : بإذن اللهِ سيأتي السيلُ ، وسيسوقُ الغنمُ ، وفي يومٍ صاحٍ نهارُه ، ركِبَ السحابُ السماءَ عشيّةً ، وأرختِ السماءُ سُدُولَها ، وما هي إلا ساعاتٌ ، وإذا بسيلٍ جارفٍ أتى على غنَمِ الرجلِ المُعانِد ، فاستاقها كلَّها ، ولم يُبْقِ له شيئاً .
- لا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله العليِّ العظيم . وإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون ، إِنَّ في ذلك لعبرةٌ.
المبيت :
ربَّما لا يُتاحُ للمرءِ من أمثالِنا سكانِ المُدُنِ الذين لا يخرجون إلى البادية إلا قليلاً ، أن يناموا على الهيئةِ التي نِمْنا عليها ، نلتحفُ السماءَ ونفترشُ الأرضَ ، وكلُّ ما حولَك فإنًّما هو فضاءٌ رهيبٌ ، يمتدُّ إلى حدِّ نظرِ العين ، يأتيك النومُ باكراً جداً ، غالبتُ النعاسَ ، ولمَّا نظرتُ إلى الساعةِ ، وجدتُها قريباً من التاسعةِ ، لا أذكر أني نمتُ الساعةَ التاسعةَ من قبلُ ، اللهمَّ إلا في أيامِ الطفولةِ ! ، ولكن لا عجبَ ، فهنا في وادي المخرم ، لا ضجيجَ ولا صوتَ تلفزيونَ ، ولا صوتَ بشرٍ ، ولا شيءَ سِوى همساتِ ليلٍ بهيمٍ ، السماءُ ونجومُها من فوقِنا ، والغبراءُ من تحتنا ، والغريبُ أيضاً أني استيقظتُ في الساعة الرابعةِ فجراً ، وقد شبِعْتُ تماماً من النومِ ، وكأنني نمتُ يوماً كاملاً ، الفجر يؤذِّنُ في الساعة السادسةِ فجراً ، فنحن في الشهر الحادي عشر من السنة الشمسية . انتظرتُ كثيراً حتّى طلع الفجرُ ، والآنَ فقط ، علمتُ لماذا يستيقِظُ أهلُ الباديةِ باكراً ، إنه الهدوء العجيبُ وراحةُ الدماغِ والحواسِ من أي إرهاقٍ سمعيِّ أو بصري .
قام عبدُ السلام يؤذِّنُ عند الفجر ، ولم يكن ليدعَ لي الأذان أبداً ، قال لي : إنه لا يؤثرُ بالأذانِ في الصحراء أحداً ، وقام لزم بحلب النوقِ بعد أن أدّينا صلاة الصبح ، قلت للزم :
- إنك لمحظوظٌ بهذا الحليب ، يكفيك غداءً وعشاءً .
- لا أحدَ يستطيعُ العيشَ على الحليبِ وحدَه .
وهنا تدخَّلَ عبدُ السلامِ ، حليبُ النوقِ يكفيكَ إن شئتَ ، لا تموتُ وأنت بجانِبِه ، لكنك لن تنال شهوتَك وغايتَك من الطعامِ والشرابِ ، وسبحان من جعل في هذه الدنيا منهما صنوفاً كثيرةً ، حكى لنا الشيوخُ من أهلِنا : إنَّ رجلاً منهم خرج في إثرِ إبلٍ له ضَلَّتْ ، ثمَّ وجَدَها قدِ ارْتَعَتْ مرعىً خصباً ، فأقامَ معها فيه سنةً كاملةً ، نفد فيها زادُه ، ولم يبقَ له شيءٌ يقتات منه إلا حليب النوق ، والماء القراح ، كانت زادَه خلال ذلك العام ، ثُمَّ رجع بها إلى أهلِه ، فلم يستطع إساغةَ الطعامِ ، فقد رقَّ حَلْقُه جداً ، وانضمَّ بعضُهُ إلى بعضٍ ، فما استطاع أن يستمرئ شيئاً ، فكانوا يُلِينُونَ له الطعامَ ، وخاصةً البازين منه جدا حتى يبدو كالسائلِ ، ويُعطُونَه إياه ، حتى استطاعَ بعدَ لأْيٍ أن يأكُل .
- سبحان الله .
إلى وادٍ آخر :
بعد أن تناولنا إفطارَنا ، اتَّفقَ لزم ، وصاحبُ الإبلِ على تغيير المرعَى ، وطلب منه عبدُ السلام أن يسير بها إلى وادٍ آخر ، فضرَبَ لزم في أعقابِ الإبلِ بسوطٍ طويلٍ صنعَهُ من بقايا عجل السياراتِ ، وثبّتَ أصلَه في عصاً غليظةٍ ، وراحَ وراءها يحذوها نحوَ الوادي المنشود ، قلتُ للزم :
- مالَكَ لا تركبُ الزُّومالة ؟
- إنَّ صاحبَك أعطاني ناقةً ثِلبةً ( كبيرةً في السن ) جعلَها زومالة ، وهي لا تُطيق سيرَ الحقة ولا الجذعة ولا ابن اللبون ، فأنا أكتفي منها بحمل أثقالي ، ولا أرجو أن تحملني معها .
عجِبْتُ لسيرِ لزم و إبله ، سار أمامَنا بإبله مُهَرْولاً وراءها ، وما هي إلا هنيهاتٌ قلائلُ
تمضي حتى وجدناه قد قطع بها ما يربو عن خمسة وعشرين كيلومترا ، وقد جرَّبْتُ صعودَ بعضِ هضابِ الجبلِ والنزولِ منه في وقتٍ يُقاربُ ثلثَ ساعةٍ فكادَ أنْ ينقطِعَ أبهري ، فسبحانَ اللهِ كم أفسدَتْنا هذه الحضارةُ ، فلا نكادُ نقضي من أمورِنا شيئاً إلا راكبين سياراتنا !
وبينما استمرَّ لزم في اطرادِ إبلِه مِلْنا نحن ، إلى شعاب الوادي نجولُ فيها ، ونتفقّدُ معالِمَها ، ثم انتهينا إلى فسكية كبيرةٍ ، والفسكية : خزّانُ ماءٍ أرضيٍّ ، تُبْنى من الخرسانة المُسَلَّحة ، تجتمعُ فيها مياهُ الأمطارِ ، ذلك أنَّها تُجعلُ في حاشية الوادي مِمَّا يلي الجبل ، فإذا نزلت مياهُ الأمطارِ من سفوحِ الجبلِ فإنَّها تهوِي إليها ، وللفسكية رقّادتانِ ، والرقَّادة : بناءٌ مستطيلٌ في باطنِ الأرضِ، يُجعل قبل الفسكية ، يكون هو المُجَمِّعُ لمياهِ الأمطارِ أولاً ، ثُمَّ تفيضُ منه مياهُ الأمطارِ إلى الفسكية الرئيسة ، وفائدةُ الرّقّادةِ أنّها تُصفِّي الماء النازل من الجبلِ من الحَصَى ، و العَذَفِ ، والشوائبِ ، فهي تَرْقُدُ فيها ، ويخرُجُ منها الماءُ إلى الفسكية خالياً منها، وللفسكية في أعلاها مخرجٌ للماءِ لتصريفِه إذا ما فاضَ عنها.
- هذه فسكية عمِّك رمضان الوتوات .
- رجلٌ شهمٌ كريمٌ .
- سنشربُ منها ونحتملُ .
- بدون إذنه ؟
- الناسُ في البادية أفضلُ مِمَّا تظُنُّ ، إنَّك لو أخبرتَه أنَّك وردتَ ماءَه ، ثمّ تركتَ الشرابَ منه لأنّك لم تستأذِنْهُ قبلاً لغَضِبَ منك ولمقتَك .
وأذكرُ أني التقيتُ الحاج رمضان الوتوات بعدَها بمدة ، فقلتُ له : نستسمحك ياعم في ما فعلنا من ورودِ مائك بغيرِ إذنك ، فقال :
- إنَّ لها ثلاثةَ أبوابٍ ، وللرقّادتيْنِ بابيْن ، فمجموعُ أبوابِِها خمسةٌ.
- صدقتَ يا عمَّاه قد رأيتُ ذلك .
- هل وجدتَ على أحدِها قُفْلاً ؟ أو سلسلةً أو ما شابه ؟
- لا .
- يا بُنَيَّ لو أردتُ منعَها لأقفلتُها ، وماؤها صدقةٌ لوجهِ اللهِ تعالَى ، وقد بلغني أنّ فلاناً سقَى عليها ثمانمئة ناقةٍ ، فما ازْدَدْتُ بذلك إلا سروراً .
- جزاك اللهُ خيراً يا عماه ، صدقةٌ جاريةٌ مقبولةٌ إن شاء الله .
الفسكية كبيرةٌ جدا ، وأخبرني الحاج رمضان أنّّ خزانيْنِ من تلك المحمولة على الشاحناتِ إنْ صُبِبْنَ فيها فإنَّ الدلوَ لا يمتلئُ منها، لأنَّ ماءَ الخزّانيْنِ لا يكونُ له عمقٌ فيها ( ولعلَّ في ذلك بعضَ مبالغة ) .
بعثنا الدلاءَ واستقينا الماء وتوضّأنا وارتوينا من ماءِ السماءِ العذبِ ، ولا أدري كيف علمتْ بنا الطيورُ فأقبلَتْ من حيثُ لا ندري تشربُ من بقيّة مائنا ، فسكبنا لها دلواً من الماء ، وانسابتْ حيّةٌ بالقربِ مني ، لعلَّ بها عطشاً أيضاً ، لم أنزعِجْ لها ، ثمّ أخبرتُ رفيقي ، فقال :
- لِمَ لَمْ تَقْتُلْها ؟
- ما كان بي لذلك رغبةٌ ، وما فائدةُ قتلِ حيّةٍ واحدةٍ في وادٍ كثيرِ الحياتِ ، كما تزْعُم ؟
- إنَّنا في الباديةِ نقتُلُها ، كذلك نقتلُ كلَّ شيءٍ مؤذٍ .
انطلقنا نتبعُ آثارَ لزم ، إنَّنا نسيرُ باتجاهِ الطريقِ الذي دخلْنا منه لوادي المخرم ، ثمَّ اتَّجَهْنا قبلةً ( جنوباً ) فإذا بدور سوف الجين العظيم يُقابلُنا ، وإذا بلزم قريباً منا يَتْبَعُ إِبِلَه ، قال لي لزم : قد ملأتُ لك برميلاً يسع خمس لتراتٍ من الحليب في السيارة ، نسيتُ أنْ أُخبِرَك به آنِفا .
- جزاك اللهُ خيراً.
- ستجِدُهُ عندما تصلُ إلى بيتك – إن شاء الله – مُتَفَّحاً .
- ما المُتَفَّحُ يا عبدَ السلامِ ؟
- إنَّ الحليبَ إذا رابَ ، وكانتْ فيه بعضُ حموضةٍ ، يُسَمّونه ( مُتَفّحاً ) ، وأنا أُفضِّلُ اللبنَ على الحليب ، وأُفَضِّلُهُ باردا ، قد حُفِظَ في الثلاجة ، هناك اللذةُ الحقيقية ، وقد عجِبْتُ منك إذ شربتَ الحليبَ ساخناً من ضرعِ أُمِّه مباشرةً فلم يؤثرْ فيك ، فقد بلغنا أنَّه يُسَبِّبُ الإسهالَ إنْ شُرِبَ على تلك الحالة .
- الحمد لله على نعمةِ الصحة .
في مصر يُسَمُّونَ الحليبَ : اللبنَ ، ويسمون اللبنَ : الرائبَ ، وقد وردَ اللفظانِ في العربية ، والظاهرُ أنّ التسمية الصحيحة هي التي يجري عليها الناسُ عندنا ، الحليب قبل أن يَرُوبَ ، واللبن : بعدما يروبُ ويحمضُ قليلا ، وقد ورد في الحديث أنّ بعض أصحابه صلى الله عليه وسلَّم أتاه بلبنٍ ، فقال له : " ألاَ رَوَّبْتَهُ ولو بعود "، والمعنَى : أنَّهم كانوا يجعلونَ على الحليب شيئاً يُغَطُّونه به ، ليسخن ويروب ، فهلاَّ جعلت عليه شيئاً ولو كان عوداً .
هذا الوادي الذي نقصِدُهُ يسمونه ( نفذ ) ، ينطقون نفذ ، بالمهملة ( نفد ) ، والعادةُ في لهجة غرب ليبيا تركُ الإعجام في الذال والثاء والظاء ، وفي الشرق يعجمون الذال والثاء ، الثاء يعجمونها جيِّداً ، وربما جعلوا الذال ظاء ، كما في قولِهم : هظا ، بمعنى هذا .
قلت لعبد السلام :
- أتدري لماذا يسمونه نفذ ؟
- أراك ستُعلِّمُني أسماء وديانٍ ما رأيتَها قطُّ إلا اليوم ؟
- نعم ، والحمد لله على ما علّمنا .
- قُلْ إذن ، فإني لا أدري سببَ التسميةَ .
- إنهم سمّوْهُ كذلك ، لأنه ينفُذُ بهم إلى ما وراء جبل الدور .
- نعم فجبل الدور ليست فيه إلا مخارجُ معدودةٌ تخترقُه ، هذا أحدُها .
- فالتسمية ، عربية صحيحة ، والاشتقاق فيها واضحٌ جدا .
وقفنا في ( سقَّنَّه ) وهي شعبةٌ تؤدي إلى نفذ ، ولأنها تخترق الجبلَ فإنّ الصخور تكثرُ في جنباتِها ، وقليلٌ رملُها ، كثيرٌ شجرُها ، نصبنا فيها آنيتَنا ، واسترحْنا ، وبعدَ صلاةِ العصر قال لي عبدُ السلام :
- أتُقيمُ الليلةَ أيضاً أم نرجع ؟
- أمَّا إذ استشرتني فإني أُريدُ الرجوعَ عن غيرِ مِلالٍ للبَرِّ ، ولكن لحوائجَ أُخَر
- فالأمر كذلك إن شاء اللهُ .
صلينا العصر ، ثُمَّ قلتُ له ، وكنا في ذي القعدة 1429 هـ ، ألاَ تَحُجُّ هذا العامَ ؟ قال لي : عندي شغلٌ كثيرٌ ، وبي للمالِ حاجةٌ ، قلتُ له : فادعُ اللهَ أن يرزقني في هذا العامِ حجّةً مبرورةً ، أَمَّنَ على دعائي ، وعند رجوعي من الحج قال لي : ليتني دعوتُ لنفسي كما دعوتَ لنفسِك ، فإني رأيتُ اللهَ قد استجابَ ، قلتُ : الحمدُ لله على توفيقِه لكل طاعة .
محمد الصادق الخازمي
تشعُرُ في بعضِ الأحايينِ بالضيقِ والسَّأَمِ مِن رتابةِ الحياةِ اليوميةِ التي تعيشُها ، وتَتَمنَّى أنْ تَكْسِرَ هذه الرَّتابةَ بشيءٍ ما ، يُخْرِجُكَ من النظامِ الصارِمِ الذي تسيرُ عليه في كلِّ يوم ، وتُجَدِّدُ نشاطَكَ في شيءٍ مختلفٍ .
قال لي ذلك الصديقُ : إنْ شئتَ الخروجَ معي إلى البَرِّ فإنَّ عندي شرطاً لا بُدَّ منه ، قلت : هاتِ ، قال : شرطي المبيتُ ، فإِنَّ الخروجَ إلى البَرِّ ثمَّ العودةُ منه سريعاً لا تُرْضي مزاجي ، ولا تَقُومُ بتعبِ الرِّحلةِ ، ولا تَسُدُّ خلّةَ الاستراحةِ فيه ، والاستمتاع بحياةٍ محتلفةٍ هناك ، قلت : وما ضرورةُ المبيتِ ؟ أَلا يكفينا النهارُ بكاملِهِ ، وإنْ شِئْتَ صدراً من الليل ؟ قال : أعرفُ أنَّك حَضَرِيٌّ ، لم تُعَوَّدْ لذَّة الباديةِ ، وليس لي عن شرطي مَزْحَلٌ ، فإن شئتَ به ، فنعم أصحبُكَ معي ، وإِلاَّ فلا تُفْسِدَنَّ عليَّ خروجي . فكَّرْتُ قليلاً ، كيف أقضي ليلةً بدون انترنت ، ومن غير قناةِ الجزيرةِ ، ومن غير رسائلِ المحمولِ ، واتصالاتِ الأصدقاءِ ؟
ثُمَّ قلت : لا بأس ، فَلأُرِحْ نفسي وذِهني من فوضَى الستالايت ، ورنّات المحمول ، وضجيج السياراتِ ، وصخبِ الناسِ في المدينة ، ولعلَّ في شرطِ الرجلِ خيراً كثيراً ،
- إنَّ عندي شرطاً .
- : وما ذاك ؟
- أنْ تبحثَ لنا عن شيئيْنِ : رفيقٍ ثالث ، وحليب إبلٍ في البادية ، في مدينتي تجدُ بعض َ المحلاتِ التي تبيعُ حليبَ الإبل ، لكنَّ العارفين من أهل الطب ينصحون بحليب الإبل التي تأكلُ من نباتِ الصحراءِ ويرون فيه منفعةً وطباً ، وكنت أُعاني شيئاً من ( الحموضة ) ، فنصحوني بهذا الحليب .
- أما الصاحبُ فأنت أدرى بمن يوافقُك ، وأمَّا حليبُ الإبل ، فعليَّ إن شاء الله.
لم نُوَفَّقْ لاصطحابِ أحدٍ معنا ، فسِرْنا صباحاً ، لم يَكُنْ مطلوباً منِّي سوى فراشٍ وغطاءٍ لنفسي ، أمَّا بقيَّةُ العدة فقد تَكَفَلَ بها عبدُ السلامِ : برميلانِ من الماءِ أحدُهما عذبٌ مُصَفَّى لشرابِنا وأكلنا وشاهينا ، والثاني من ماء الحنفيات العادي للوضوء وغسلِ الأواني ، و لوازِمُ أُخْرَى كثيرةً ، أَعَدَّ لها الرفيقُ صندوقاً خاصّاً يحويها ويجمعُها .
المسير :
سيارتُه الداتسون القديمة بها أيضاً كلّ لوازمِ السفرِ ، وبها عجلتان احتياطيتان ، وعِدّةُ مفاتيحَ وأشياء معها لمواجهةِ أيِّ عطلٍ طارئٍ .
اتَّجَهَتْ بنا السيارةُ نحو وادي سوف الجين ، أكبرِ وديان ليبيا تقريبا ، يمتدُّ أعلاه - وكل الوديان في غرب ليبيا إن قلت : أعلَى : فإنهم بقصدون به ناحية الغرب ، والأسفل : في اتجاه الشرق - بمحاذاة نسمة ومزدة وغريان ويسير جنوب بني وليد ثمَّ يخترقُ السدادة ، وينتهي به مطافُه في البحر الأبيض المتوسط بالقربِ من تاورغاء ، طوله يبلغُ مئات الكيلومترات ، وجمع مع الطولِ العظيمِ ، اتِّساعَ عَرْضِهِ ، وقد يبلُغُ في بعض الأماكن عشراتِ الكيومترات ، وهو لشدة عرضه ، يصعبُ أن تَجْري فيه السيولُ ، لكنَّه إِنْ سالَ ، استبشرَ بسيلِه الناسُ في كلِّ الأماكنِ القريبةِ ، والصّابةُ فيه ( الصّابةُ : خصبُ الزرع ، وشدةُ نمائه ) غريبةٌ عجيبةٌ ، تُرْوَى عنها حكاياتٌ يصعبُ تصديقُها .
اقتربتْ بنا السيّارةُ من ( القلعة )[ ينطقها العوام بضم القاف ، وتسكين اللام ] ، وهي جبلٌ عظيمٌ شديدُ الارتفاع ، في أعلاه مقام الوليّ الصالح سيدي امبارك ، يتّخِذهُ الناسُ مزاراً ، وفي القلعةِ أخاديدُ عظيمةُ يعيشُ فيها الودَّان ( الوعلُ البرِّيُّ ) ، وحول جبل القلعة تُوجَدُ بعضُ القُورِ الصغيرةِ المحيطة به ، والقورُ : جبالٌ صخريّةٌ صغيرةٌ ، وهنا ذكرت قول كعب بن زهير :
كأَنَّ أوْبَ ذِراعيْها وقد عرِقَتْ * وقد تَلَفَّعَ بِالقُـورِ العسـاقيلُ
شَدَّ النّهارِ ، ذراعا عَيْطَلٍ نَصِفٍ * قامَتْ ، فجاوبَها نُكْدٌ مثاكِيلُ
وهذا من التشبيه المقلوب ، لأَنَّ القُور هي التي تَلَفَّعَتْ بالعساقيل ، والعساقيلُ : السراب.
يُقابِلُ جبل القلعة ِ سلسلةُ جبالٍ مُتّصِلَةٍ عظيمةٍ ، يُسَمِّيها الناسُ : دور سوف الجين ، وأظُنُّ أَنَّ سبب تسميتِها دوراً أنها دائِرةٌ بوادي سوف الجين ، مُحيطةٌ به .
حسِبْتُ أَنَّ عبدَ السلام سيسيرُ نحوَ القلعة لكنّه سارَ بِاتِّجاهِ جنوبِها إلى الدور ، ثم ظهر لنا بين القلعةِ والدور اتساعٌ وانفراجٌ وكنتُ أَراهما من بعيدٍ كالمُتَّصِلَيْنِ ،
- هذا وادي الْمَخْرَم ، بين الجبلين العظيميْن ، بين الدور ، وسوف الجين .
- إنَّها تسميةٌ عربيّةٌ فصيحة ، فهذا الوادي يبدو كالخُرْمِ في وسطِ هذه الجبال ، والاشتقاقُ سليمٌ بالنسبة للعربية .
- هل تَشُكُّ في عربيَّتِنا ؟
- ليس لذلك ، ولكنّي أرتاب في مُسَمَّى سوف الجين ، سمعتُ أنَّها تسميةٌ بربرية ، وأنَّها تعني في لغة البربر : وادي البطُّوم ( البطوم : شجرٌ صحراوي ، يُشبِه الزيتون ، وله حَبٌّ صغيرٌ جدا فيه زيتٌ ، يقضمه الناسُ ويتَّخِذونه تسليةً ، كما يفعلون اليوم بالبندق والفستق والسامينسا ) ، ولعلَّ تسميةَ سوف الجين جاءت من أجزائه العليا حيثُ يقتربُ من جبل نفوسه ، وأماكن تواجد البربر .
- في العامية يَدَّعون أن تسمية سوف الجين مُحَرَّفةٌ عن كلمتي : شوف ( انظر ) الزَّيْن .
- ربَّما ، أو لستُ مقتنعاً بهذا السببِ الأخير.
وادي المخرم وادٍ عريضٌ أيضاً ، صحيحٌ أَنَّهُ يبدو في مدخلِهِ ، كخُرْمِ إبرةٍ بين الجبال ، لكن ما إنْ تَتَجاوزْ مدخلَه حتَّى يبدو لك اتساعُه ، وخِصْبُه ، الطريقُ ليستْ سيئةً هنا ، فالأرضُ ليستْ صخريّة ، بل هي أقربُ للطينية .
- انظُرْ هل تَرَى إِبِلاً ؟ فإنَّ نظري كليلٌ !
- لا أَرى إِبِلاً في مَدَى بصري .
- أَظُنُّك لا تعرِفُ كيف تَرَى ، إِنَّك ستراها من بعيدٍ كأَنَّها نُقَطٌ سوداءُ تنتشِرُ في الوادي ، فَأَعِدْ نظراً .
أعدتُ النظرَ .
- نعم ، أَرَى مِنْ بعيدٍ نُقَطاً سوداء .
- لعلَّ ما رأيته شجر سِدرٍ !
- وما يُدريني !
- انظُر ، وثَبِّتْ نَظَرَك ، فإِنْ تَحَرَّكَت النُّقَطُ السوداءُ فهي إِبِلٌ ، وإِلاَّ فهي شجر .
مَنْ لم يَعْتَدِ الصحراءَ والباديةَ ، قد يُسْرِعُ إليه الخيالُ ، ويُغْويه السرابُ ، ويختلِطُ عليه الأمرُ ، وبعدَ نظرٍ وتَثَبُّتٍ قلت له : نعم إنها نُقَطٌ تتحَرَّك .
- أَتُرانا نَجِدُ عند راعيها حليباً .
- خُذْ مِنِّي هذه ، إِنْ وَجَدْتَ الإبِلَ مُشَمَّلةً ففيها حليبٌ ، وإلاَّ فلا ، ( الشمال : كالخُرْج الصغير يُوضعُ حول ضرعِ الناقةِ ، ويُشَدُّ بِخُيُوطٍ على سنامِها ، ورُبَّما جعلوا حولَ السَّنامِ قِطعةً من كيسِ العلفِ تُنْقَبُ مِنْ أعلاها ، فتخرجُ من الكيس ذروةُ السنام ، ويُشَدُّ الخرج الذي على الضرع بخيوطٍ تُثَبَّتُ على الكيس حولَ السنامِ ) ، ووجودُ كيس العلفِ مشدوداً على السنامِ دليلٌ على أنَّ الناقةَ مُعَدَّةٌ للحلب ، وهم يجعلون لها الشمال ، لئلاَّ يرضعها الحوارُ فلا يُبْقي لهم شيئاً مِن لبنها ، فهم يَحْبِسون عليها حليبَها لينالوا منه مع الحوار .
التقينا الإبِلَ وراعيَها ، أَنَاخَ علينا زُومالَهُ ( والزومالة : لفظةٌ عربيَّةُ فصيحةٌ ، وتعني الجمل القويَّ ، الذي يَشُدُّ عليه الراعي متاعَهُ وأغراضَه ، ويركبُهُ للحاقِ بالإبِلِ ورعيِها ، وربَّما كانت الزومالةُ ناقةً بمواصفات الجمل السابقة ) ، تَسَرَّعتُ فَسَأَلْتُ الراعي : هل عندك من لبن ؟
- لا ، إني مؤتمنٌ ولستُ بساقيكم ، وقد أَمَرني صاحبي أنْ لا أسقيَ أحداً إلا بإذنه.
- هل رأيتَ راعيَ إبلٍ هنا ، اسمُه : لزم ؟
- نعم هو في تلك الناحية .
- تصحبك السلامةَ ، قل لي لِمَن إبلُك ؟
- هي لفلان .
- ما رأيتُ أشدُّ بُخلاً من رجلٍ يمنعُ حليب إِبِلِه في الصحراء ، والناسُ هنا نادِرُو الوجودِ ، فكيفَ لو كان البشرُ كثيرين في البادية ؟! ، أَرى أنَّ هذا الرجلَ لو استطاع أن يمنع عن الناسِ الهواءَ لفعل ، أتعرفُ صاحبَها ؟
- أليس ذلك الرجلُ المسؤولُ في بلدِنا ؟
- نعم هو كذلك ، وهو دعِيٌّ على الباديةِ وأخلاقِِها اتَّخذَ له إبلاً للتباهي والتفاخر ، وهو سرق الأموالَ من الناس ، قاتله اللهُ !
- تبييضُ أموال .
- ماذا تعني هذه الكلمةُ ؟
- ما عليك منها ، كلمةٌ مُهَذَّبةٌ يُطْلِقُونها على السُّراق . نستغفرُ اللهَ في حقِّه .
- هذه لا تستغفِرْ منها.
- إِنْ كانَ فيه ما تقولُ فقد اغْتَبْتَه ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ فيه ما تقولُ فقد بَهَّتَّه .
- لا غيبةَ في فاسق .
- دعنا منه .
لقاء الإبل :
ومضَيْنا نَطْلُبُ لَزْماً ، قال لنا الراعي إنّه في اتجاه الشمال ، فأخذنا ناحيتَه ، وما زالتِ السيارةُ تمضي بنا حتى وجدناه ، فأتانا :
- مرحبا بكما .
- وبك .
- أين إبلُكَ ؟
- هي ههنا ، غير بعيد .
- اذهبْ فأتِ بها ، فإنا مشتاقون لرؤيتِها .
ذهبَ الراعي يجمعُ إِبِلَهُ ، ويسوقُها نحوَنا .
- يا عبدَ السلامِ ، لعلَّكَ كلَّفْتَ الرجُلَ شططاً ، دعِ الرجلَ وإبِلَه ، ما حاجتُنا بها الساعةَ ؟
لم يكن عبدُ السلامِ قد أخبرني وقتَها أنَّهُ مالكُ الإبلِ ، وكنت أظنُّها لبعضِ أصحابِه ، وما أعْلمني بذلك إلاَّ عندَ أوبتِنا ، والغريبُ أنَّ راعيَه لزماً تعاطَى معه التعميةَ عليَّ طيلةَ مُقامِنا عنده ، فقد أخبرتُ لزماً بالراعي الذي منعهُ صاحبُهُ من بَذْلِ اللبن ، قال لزم : أمَّا أنا فواللهِ لا أَرْعَى على أحدٍ يمنعُ طارقاً أو ضيفاً اللبنَ أبداً ، ولو طلبَ مني صاحبي مثلَ ما كُلِفَ ذلك الراعي ما أطعتُه ، وما رعيتُ له قطُّ .
- أَتُراهما اجتمعا في اللؤم ؟
- لا لومَ إلا على صاحبِ الإبل .
قال لي عبدُ السلام : إِنَّ بي شوقاً عظيماً لرؤية الإبل من قريبٍ ، إنَّها مخلوقٌ عجيبٌ محبوبٌ ، أَلاَ تَرَى أنَّكَ إذا مرَّتْ بك ، أو رأَيْتَها محمولةً في سيارةٍ ، فلا بُدَّ أن تنظُرَ إليها ، حتى تغيب .
- ليس ذلك بالضرورة . رُبَّما مرَّتْ فلا ألتَفِتُ إليها ، وأنا رجلٌ كثيرُ الشغلِ في ذهني ، فربَّما انشغلتُ حتَّى عمَّا هو أغربُ منها .
- ذلك غريبٌ من طبعِك . ما كنتُ أحسِبُ أنَّ على الأرضِ إنساناً ، تَمُرُّ بِه الإبلُ فلا يَلْتَفِتُ إليها !
يستحسنُ بنا أن نضع أمتعتنا عند هذه الشجرةَ .
ولَمَّا وضعتُ المتاعَ ، وأنزَلْتُ لوازمَنا ، قال لي :
- إنَّ الظِِّلَّ سينقلبُ بعدَ قليلٍ إلى الناحيةِ الأُخرى فضع الأشياء هناك .
وأراحَ علينا الراعي الإبلَ ، فقام صاحبُنا يتفقّدُها ، ويسيرُ بينها ، ثمّ قال لراعيه ، ما تأكلُ الإبلُ هنا ؟
- الضمران .
أشار إليَّ بشجر الضمران ، الذي يتنشرُ في هذا الوادي كثيرٌ ، لكنْ ذهبتْ خضرتُه ، وبدا يَبِساً .
- نسألُ اللهَ الغيثَ النافعَ فهذا الضمرانُ لن يُشْبِعَها إلا قليلاً .
- آمين يا لزم.
- والآنَ هل سننالُ من الحليبِ يا لزم ؟
- ليسَ الآنَ ، يا أخاهُ ، إِنَّ الإبلَ لا تُحْلبُ إلا في الصباحِ الباكرِ ، أو في آخر العشيِّ ، ثُمَّ إِنَّ الإبلَ لا تَدُرُّ لبنَها حتَّى يأتيَها حوارُها ، وعند ذاك ننتهزُ الفرصةَ فنأخُذُ منها ، والحقَّ أقولُ لكم ، إنَّ الضمرانَ هنا لا يُشْبِعُ الإبلَ كثيراً ، وأخافُ إنْ أكثرتُ لكما الحلبَ أنْ تَهْْزُلَ فِصالُها.
- حاجتُنا يسيرةٌ ، هي بقدرِ شرابِنا فقط .
- أبشِرا ، عندَ الغروب .
انشغلْنا بإعداد إفطارِنا ، ثمَّ أخذنا جولةً في الوادي ، خضنا فيها رمالَه ، وحاذَيْنا دور سوف الجين ، ووصَلنا إلى قريبٍ من القلعة، وعند الغروب أراح علينا الراعي إبلَهُ مرَّةً أُخرَى ، وحلبَ لنا وسقانا حتى ارتويْنا ، أخذنا مكانَنا بجانبِ سِدرةٍ عظيمةٍ ، وأرخَى الليلُ سدولَه ، و برَّكَ الراعي الإبلَ مِنْ حولِنا ، ثم استأذنَ فقال : إنه ذاهبٌ لمسامرةِ بعضِ إخوانِه ، قال له عبدُ السلام :
- لعلَّكَ تُسامرُ راعي فلانٍ ( صاحبِنا آنفاً ) ؟
- نعم.
- إنَّ القرينَ بالمُقارِنِ يقتدي .
- لا تُسْرِفوا في اللومِ على الرجلِ .
- نعم ، صدقتَ .
- هل نتركُ لك من العشاءِ ؟
- إِنْ شئتُما.
أَخرجَ عبدُ السلامِ كشّافاً صغيراً من سيارته ، ووصلهُ بسلكٍ إلى بطارية السيارة ، وطفِقْنا نُعِدُّ المكرونة ، أصبحنا النقطةَ الوحيدةَ المُضيئةَ في الوادي كُلِّه ، قال عبد السلام : لا أُحِبُّ هذا الضوءَ ، ولولا حاجتُنا لمعرفةِ مقاديرِ الطعامِ ما شغَّلْتُه ، وبعدَ صلاةِ العشاءِ ، قامَ عبدُ السلامِ بإطفاءِ الكشَّافِ ، ومضَى يُعِدُّ الشاي .
- ليس في الدنيا شيءٌ ألذُّ من شايٍ يُصْنعُ على الحطبِ .
- ومكرونةٍ على الحطبِ أيضاً .
- أتعرفُ السببَ ؟ ، إنَّ السببَ يكمُنُ في دُخَانِ الحطبِ نفسِه ، فهو يُعطي نكهةً زائدةً.
قلت رحِم اللهُ أبا تمّام حيثُ يقول :
لولا اشتِعالُ النارِ فيما جاوَرَتْ * ما كانَ يُعْرَفُ طيبُ عَرْفِ العُودِ
السكونُ هنا شديدٌ ، لا تكادُ تسمعُ إلا أصواتاً مُتَقَطِّعةً لكلابٍ بعيدةٍ ، يبدو أنّها تصحبُ راعي غنمٍ في الوادي ، وعند مُضيِّ ساعاتٍ من الليل ، سمعنا أصواتِ عواء الذئابِ ، وبد الصوتُ قريباً جداً ، سألتُ لزماً بعدَ أنْ جاءَ :
- ألاَ تخشَى الذِّئابَ على إبِلٍِكَ ؟
- أنتَ لا تعرفُ شيئاً عن البَرِّ ، إِنَّ الناقةَ أقوَى من الذئابِ ، وهي لا تستطيعُ أن تؤذيَها إلا في حالةٍ واحدةٍ ، وهي أن تكونَ الناقةُ في حالة مخاضٍ ، عندها يأتي الذئبُ فيفترسُ حوارَها ، وهو يخرجُ من بطنِها ، فلا تستطيعُ الناقةُ له دفْعاً .
- وأين بقيّةُ النوقِ ألاَ تدفعُ عنها ؟
- إنَّك لا تعرفُ ، الناقةُ عندما يأتيها المخاضُ تنفردُ بنفسِها بعيداً عن بقيةِ الإبلِ وعن الناسِ أيضاً ، إنَّ بالنوقِ حياءً عظيماً .
- سبحان الله !
بدتْ أصواتُ الذئابِ قريبةً جداً ،سألتُ الراعي :
- هل الذئابُ قريبةٌ ؟
- نعم هي حولنا اشتمّتْ رائحةَ الشواءِ واللحم ، فهي قريبةٌ جدا ، ولكن لا تخْشَ هجومَها ، فهي تخافُ الإنسانَ ، إنَّ الإنسانَ هو أشرسُ شيءٍ في هذه الحياةِ ، يهابُهُ كلُّ مَن فيها .
- سبحان الله ( إنه كان ظلوماً جهولاً ) .
قلتُ للرجليْن : هل تضمنانِ أنَّ الذئابَ لن تُهاجمَنا ونحن نائمون ؟
- أمرٌ مستَبْعَدٌ ، وكِّلِ اللهَ.
- نعم ، ولكنِّي سمعتُ عن غدرِ الذئبِ الشيءَ الكثيرَ ، وماذا عن الحيَّاتِ ؟
- قال لزم : وجدتُ أثرَها قريباً في هذه المنطقةِ .
- دعِ الرجلَ ينامُ بسلامٍ يا لزم ، قال عبدُ السلامِ .
- سأقرأُ كلَّ ما أعرفُ من تعاويذَ وأذكارٍ ، والحافظُ اللهُ .
- نعم ، الحافظُ اللهُ .
كان مجلِسُنا في جلْهةِ الوادي حيثُ نبتعدُ عن بطنِهِ ، ونقتربُ من أعاليه ، البدو لا ينامون ، ولا يجلسون في بطنِ الوادي أبداً ، ذلك أنَّ السيلَ قد يفجؤهم في أيِّ وقتٍ ، قال لي عبدُ السلام :
- كان لي صديقٌ ابتاع غنماً كثيرةً ، وأتَى بها إلى هذا الوادي قبل سنتيْنِ ربَّما ، زرتُهُ ، فوجدتُه قد عمِلَ زريبتَه ( حظيرةُ الغنم ) في بطن الوادي ، نصحتُه أن يجعلَها في اللَّبَطِ ( طرف الوادي ممَّا يلي الجبل ) ، وقلتُ له : اجعلْها هناك ، حيثُ كان شيوخُنا يفعلون ، فقد كانوا يخشَوْنَ السيل ، فردَّ عليَّ صديقي مُسْتَهْزئاً : السيلُ ! ، وأينَ السيلُ ؟ فلْيأتِ السيلُ ، ولْيَسُقِ الغنمَ ، قال له عبدُ السلامِ : بإذن اللهِ سيأتي السيلُ ، وسيسوقُ الغنمُ ، وفي يومٍ صاحٍ نهارُه ، ركِبَ السحابُ السماءَ عشيّةً ، وأرختِ السماءُ سُدُولَها ، وما هي إلا ساعاتٌ ، وإذا بسيلٍ جارفٍ أتى على غنَمِ الرجلِ المُعانِد ، فاستاقها كلَّها ، ولم يُبْقِ له شيئاً .
- لا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله العليِّ العظيم . وإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعون ، إِنَّ في ذلك لعبرةٌ.
المبيت :
ربَّما لا يُتاحُ للمرءِ من أمثالِنا سكانِ المُدُنِ الذين لا يخرجون إلى البادية إلا قليلاً ، أن يناموا على الهيئةِ التي نِمْنا عليها ، نلتحفُ السماءَ ونفترشُ الأرضَ ، وكلُّ ما حولَك فإنًّما هو فضاءٌ رهيبٌ ، يمتدُّ إلى حدِّ نظرِ العين ، يأتيك النومُ باكراً جداً ، غالبتُ النعاسَ ، ولمَّا نظرتُ إلى الساعةِ ، وجدتُها قريباً من التاسعةِ ، لا أذكر أني نمتُ الساعةَ التاسعةَ من قبلُ ، اللهمَّ إلا في أيامِ الطفولةِ ! ، ولكن لا عجبَ ، فهنا في وادي المخرم ، لا ضجيجَ ولا صوتَ تلفزيونَ ، ولا صوتَ بشرٍ ، ولا شيءَ سِوى همساتِ ليلٍ بهيمٍ ، السماءُ ونجومُها من فوقِنا ، والغبراءُ من تحتنا ، والغريبُ أيضاً أني استيقظتُ في الساعة الرابعةِ فجراً ، وقد شبِعْتُ تماماً من النومِ ، وكأنني نمتُ يوماً كاملاً ، الفجر يؤذِّنُ في الساعة السادسةِ فجراً ، فنحن في الشهر الحادي عشر من السنة الشمسية . انتظرتُ كثيراً حتّى طلع الفجرُ ، والآنَ فقط ، علمتُ لماذا يستيقِظُ أهلُ الباديةِ باكراً ، إنه الهدوء العجيبُ وراحةُ الدماغِ والحواسِ من أي إرهاقٍ سمعيِّ أو بصري .
قام عبدُ السلام يؤذِّنُ عند الفجر ، ولم يكن ليدعَ لي الأذان أبداً ، قال لي : إنه لا يؤثرُ بالأذانِ في الصحراء أحداً ، وقام لزم بحلب النوقِ بعد أن أدّينا صلاة الصبح ، قلت للزم :
- إنك لمحظوظٌ بهذا الحليب ، يكفيك غداءً وعشاءً .
- لا أحدَ يستطيعُ العيشَ على الحليبِ وحدَه .
وهنا تدخَّلَ عبدُ السلامِ ، حليبُ النوقِ يكفيكَ إن شئتَ ، لا تموتُ وأنت بجانِبِه ، لكنك لن تنال شهوتَك وغايتَك من الطعامِ والشرابِ ، وسبحان من جعل في هذه الدنيا منهما صنوفاً كثيرةً ، حكى لنا الشيوخُ من أهلِنا : إنَّ رجلاً منهم خرج في إثرِ إبلٍ له ضَلَّتْ ، ثمَّ وجَدَها قدِ ارْتَعَتْ مرعىً خصباً ، فأقامَ معها فيه سنةً كاملةً ، نفد فيها زادُه ، ولم يبقَ له شيءٌ يقتات منه إلا حليب النوق ، والماء القراح ، كانت زادَه خلال ذلك العام ، ثُمَّ رجع بها إلى أهلِه ، فلم يستطع إساغةَ الطعامِ ، فقد رقَّ حَلْقُه جداً ، وانضمَّ بعضُهُ إلى بعضٍ ، فما استطاع أن يستمرئ شيئاً ، فكانوا يُلِينُونَ له الطعامَ ، وخاصةً البازين منه جدا حتى يبدو كالسائلِ ، ويُعطُونَه إياه ، حتى استطاعَ بعدَ لأْيٍ أن يأكُل .
- سبحان الله .
إلى وادٍ آخر :
بعد أن تناولنا إفطارَنا ، اتَّفقَ لزم ، وصاحبُ الإبلِ على تغيير المرعَى ، وطلب منه عبدُ السلام أن يسير بها إلى وادٍ آخر ، فضرَبَ لزم في أعقابِ الإبلِ بسوطٍ طويلٍ صنعَهُ من بقايا عجل السياراتِ ، وثبّتَ أصلَه في عصاً غليظةٍ ، وراحَ وراءها يحذوها نحوَ الوادي المنشود ، قلتُ للزم :
- مالَكَ لا تركبُ الزُّومالة ؟
- إنَّ صاحبَك أعطاني ناقةً ثِلبةً ( كبيرةً في السن ) جعلَها زومالة ، وهي لا تُطيق سيرَ الحقة ولا الجذعة ولا ابن اللبون ، فأنا أكتفي منها بحمل أثقالي ، ولا أرجو أن تحملني معها .
عجِبْتُ لسيرِ لزم و إبله ، سار أمامَنا بإبله مُهَرْولاً وراءها ، وما هي إلا هنيهاتٌ قلائلُ
تمضي حتى وجدناه قد قطع بها ما يربو عن خمسة وعشرين كيلومترا ، وقد جرَّبْتُ صعودَ بعضِ هضابِ الجبلِ والنزولِ منه في وقتٍ يُقاربُ ثلثَ ساعةٍ فكادَ أنْ ينقطِعَ أبهري ، فسبحانَ اللهِ كم أفسدَتْنا هذه الحضارةُ ، فلا نكادُ نقضي من أمورِنا شيئاً إلا راكبين سياراتنا !
وبينما استمرَّ لزم في اطرادِ إبلِه مِلْنا نحن ، إلى شعاب الوادي نجولُ فيها ، ونتفقّدُ معالِمَها ، ثم انتهينا إلى فسكية كبيرةٍ ، والفسكية : خزّانُ ماءٍ أرضيٍّ ، تُبْنى من الخرسانة المُسَلَّحة ، تجتمعُ فيها مياهُ الأمطارِ ، ذلك أنَّها تُجعلُ في حاشية الوادي مِمَّا يلي الجبل ، فإذا نزلت مياهُ الأمطارِ من سفوحِ الجبلِ فإنَّها تهوِي إليها ، وللفسكية رقّادتانِ ، والرقَّادة : بناءٌ مستطيلٌ في باطنِ الأرضِ، يُجعل قبل الفسكية ، يكون هو المُجَمِّعُ لمياهِ الأمطارِ أولاً ، ثُمَّ تفيضُ منه مياهُ الأمطارِ إلى الفسكية الرئيسة ، وفائدةُ الرّقّادةِ أنّها تُصفِّي الماء النازل من الجبلِ من الحَصَى ، و العَذَفِ ، والشوائبِ ، فهي تَرْقُدُ فيها ، ويخرُجُ منها الماءُ إلى الفسكية خالياً منها، وللفسكية في أعلاها مخرجٌ للماءِ لتصريفِه إذا ما فاضَ عنها.
- هذه فسكية عمِّك رمضان الوتوات .
- رجلٌ شهمٌ كريمٌ .
- سنشربُ منها ونحتملُ .
- بدون إذنه ؟
- الناسُ في البادية أفضلُ مِمَّا تظُنُّ ، إنَّك لو أخبرتَه أنَّك وردتَ ماءَه ، ثمّ تركتَ الشرابَ منه لأنّك لم تستأذِنْهُ قبلاً لغَضِبَ منك ولمقتَك .
وأذكرُ أني التقيتُ الحاج رمضان الوتوات بعدَها بمدة ، فقلتُ له : نستسمحك ياعم في ما فعلنا من ورودِ مائك بغيرِ إذنك ، فقال :
- إنَّ لها ثلاثةَ أبوابٍ ، وللرقّادتيْنِ بابيْن ، فمجموعُ أبوابِِها خمسةٌ.
- صدقتَ يا عمَّاه قد رأيتُ ذلك .
- هل وجدتَ على أحدِها قُفْلاً ؟ أو سلسلةً أو ما شابه ؟
- لا .
- يا بُنَيَّ لو أردتُ منعَها لأقفلتُها ، وماؤها صدقةٌ لوجهِ اللهِ تعالَى ، وقد بلغني أنّ فلاناً سقَى عليها ثمانمئة ناقةٍ ، فما ازْدَدْتُ بذلك إلا سروراً .
- جزاك اللهُ خيراً يا عماه ، صدقةٌ جاريةٌ مقبولةٌ إن شاء الله .
الفسكية كبيرةٌ جدا ، وأخبرني الحاج رمضان أنّّ خزانيْنِ من تلك المحمولة على الشاحناتِ إنْ صُبِبْنَ فيها فإنَّ الدلوَ لا يمتلئُ منها، لأنَّ ماءَ الخزّانيْنِ لا يكونُ له عمقٌ فيها ( ولعلَّ في ذلك بعضَ مبالغة ) .
بعثنا الدلاءَ واستقينا الماء وتوضّأنا وارتوينا من ماءِ السماءِ العذبِ ، ولا أدري كيف علمتْ بنا الطيورُ فأقبلَتْ من حيثُ لا ندري تشربُ من بقيّة مائنا ، فسكبنا لها دلواً من الماء ، وانسابتْ حيّةٌ بالقربِ مني ، لعلَّ بها عطشاً أيضاً ، لم أنزعِجْ لها ، ثمّ أخبرتُ رفيقي ، فقال :
- لِمَ لَمْ تَقْتُلْها ؟
- ما كان بي لذلك رغبةٌ ، وما فائدةُ قتلِ حيّةٍ واحدةٍ في وادٍ كثيرِ الحياتِ ، كما تزْعُم ؟
- إنَّنا في الباديةِ نقتُلُها ، كذلك نقتلُ كلَّ شيءٍ مؤذٍ .
انطلقنا نتبعُ آثارَ لزم ، إنَّنا نسيرُ باتجاهِ الطريقِ الذي دخلْنا منه لوادي المخرم ، ثمَّ اتَّجَهْنا قبلةً ( جنوباً ) فإذا بدور سوف الجين العظيم يُقابلُنا ، وإذا بلزم قريباً منا يَتْبَعُ إِبِلَه ، قال لي لزم : قد ملأتُ لك برميلاً يسع خمس لتراتٍ من الحليب في السيارة ، نسيتُ أنْ أُخبِرَك به آنِفا .
- جزاك اللهُ خيراً.
- ستجِدُهُ عندما تصلُ إلى بيتك – إن شاء الله – مُتَفَّحاً .
- ما المُتَفَّحُ يا عبدَ السلامِ ؟
- إنَّ الحليبَ إذا رابَ ، وكانتْ فيه بعضُ حموضةٍ ، يُسَمّونه ( مُتَفّحاً ) ، وأنا أُفضِّلُ اللبنَ على الحليب ، وأُفَضِّلُهُ باردا ، قد حُفِظَ في الثلاجة ، هناك اللذةُ الحقيقية ، وقد عجِبْتُ منك إذ شربتَ الحليبَ ساخناً من ضرعِ أُمِّه مباشرةً فلم يؤثرْ فيك ، فقد بلغنا أنَّه يُسَبِّبُ الإسهالَ إنْ شُرِبَ على تلك الحالة .
- الحمد لله على نعمةِ الصحة .
في مصر يُسَمُّونَ الحليبَ : اللبنَ ، ويسمون اللبنَ : الرائبَ ، وقد وردَ اللفظانِ في العربية ، والظاهرُ أنّ التسمية الصحيحة هي التي يجري عليها الناسُ عندنا ، الحليب قبل أن يَرُوبَ ، واللبن : بعدما يروبُ ويحمضُ قليلا ، وقد ورد في الحديث أنّ بعض أصحابه صلى الله عليه وسلَّم أتاه بلبنٍ ، فقال له : " ألاَ رَوَّبْتَهُ ولو بعود "، والمعنَى : أنَّهم كانوا يجعلونَ على الحليب شيئاً يُغَطُّونه به ، ليسخن ويروب ، فهلاَّ جعلت عليه شيئاً ولو كان عوداً .
هذا الوادي الذي نقصِدُهُ يسمونه ( نفذ ) ، ينطقون نفذ ، بالمهملة ( نفد ) ، والعادةُ في لهجة غرب ليبيا تركُ الإعجام في الذال والثاء والظاء ، وفي الشرق يعجمون الذال والثاء ، الثاء يعجمونها جيِّداً ، وربما جعلوا الذال ظاء ، كما في قولِهم : هظا ، بمعنى هذا .
قلت لعبد السلام :
- أتدري لماذا يسمونه نفذ ؟
- أراك ستُعلِّمُني أسماء وديانٍ ما رأيتَها قطُّ إلا اليوم ؟
- نعم ، والحمد لله على ما علّمنا .
- قُلْ إذن ، فإني لا أدري سببَ التسميةَ .
- إنهم سمّوْهُ كذلك ، لأنه ينفُذُ بهم إلى ما وراء جبل الدور .
- نعم فجبل الدور ليست فيه إلا مخارجُ معدودةٌ تخترقُه ، هذا أحدُها .
- فالتسمية ، عربية صحيحة ، والاشتقاق فيها واضحٌ جدا .
وقفنا في ( سقَّنَّه ) وهي شعبةٌ تؤدي إلى نفذ ، ولأنها تخترق الجبلَ فإنّ الصخور تكثرُ في جنباتِها ، وقليلٌ رملُها ، كثيرٌ شجرُها ، نصبنا فيها آنيتَنا ، واسترحْنا ، وبعدَ صلاةِ العصر قال لي عبدُ السلام :
- أتُقيمُ الليلةَ أيضاً أم نرجع ؟
- أمَّا إذ استشرتني فإني أُريدُ الرجوعَ عن غيرِ مِلالٍ للبَرِّ ، ولكن لحوائجَ أُخَر
- فالأمر كذلك إن شاء اللهُ .
صلينا العصر ، ثُمَّ قلتُ له ، وكنا في ذي القعدة 1429 هـ ، ألاَ تَحُجُّ هذا العامَ ؟ قال لي : عندي شغلٌ كثيرٌ ، وبي للمالِ حاجةٌ ، قلتُ له : فادعُ اللهَ أن يرزقني في هذا العامِ حجّةً مبرورةً ، أَمَّنَ على دعائي ، وعند رجوعي من الحج قال لي : ليتني دعوتُ لنفسي كما دعوتَ لنفسِك ، فإني رأيتُ اللهَ قد استجابَ ، قلتُ : الحمدُ لله على توفيقِه لكل طاعة .